السياسي أم الإداري، من يخضع لمن؟
هذا السؤال الجدلي لا يمكن أن نجد له جوابا واضحا إلا في كواليس
المؤسسات المنتخبة. كما أن توضيح سياقه يكون أبين كذلك إذا كانت المقارنة فيه تتم
من خلال القطاع الخاص،أولا لأن المؤسسات المنتخبة تخضع لازدواجية تدبير الفعل
العمومي بين المنتخب بصفته ممثلا بالدرجة الأولى لفئة عريضة من المواطنين اختارته
لينوب عنها وممثلا بالدرجة الثانية لتنظيم حزبي بأجندة وبرنامج مرحليين يخضعان
بدورهما للدور الذي أنيط بهذا المنتخب في جهاز المؤسسة المسير، وبصفته كذلك معبرا
عن ايديولوجية من المفترض أن تكون بصمتها بادية للعيان خلال الاختيارات التي يقوم
بها عند إنجاز قراراته، وبين الإداري الذي يعتير بحق الساهر على تنفيذ اختيار
المنتخب، تنفيذا يستمد أدواته مما أنتجه القانون الإداري وعلم الإدارة من أدوات
تدبيرية تقنية متخصصة غالبا ما تكون لها الكلمة الفصل في تحقيق اختيارات الطرف
الأول أو فشلها. وثانيا لأن القطاع الخاص الذي تغلب على مؤسساته هواجس الربح
والتنافسية وتوسيع النشاط ورسملة الإمكانيات وتحقيق توازنات التسويق تبعا لشروط
السوق ومحيطه، وذلك على عكس القطاع العام الذي يتميز بوضعية اعتبارية تستمد قوتها
واستمراريتها من روح القوانين التي ترعاها الدولة بدءا من تشريعها إلى آخر شاهد
على إجراءاتها التنفيذية.
وثمة فروق جوهرية بين هذا التصنيف لا يمكن للمتتبع أن يغفل عنها أو
يتجاوزها لحسم المعركة بين الغريمين ولو نظريا. أولاها أن العمل الإداري صمم ليخضع
للسياسي. إنها نتيجة حتمية وضرورية لدولة القانون، فكل عمل إداري يخضع لقرار سياسي
وليس العكس. هذه الهيمنة في اتجاه واحد تجد جذورها في الفلسفة التي أنتجتها
التجارب البيروقراطية التي جاءت في بدايتها لتحل مشاكل التسيير قبل أن تتحول إلى
إرث يثقل كاهل الدولة التي اختارته ويرهق عقولها وهي تحاول تجديد نموذج تسييري
وريث يحترم تطور وتقدم المجتمعات الذي لن يرسو يوما على حل نهائي. ولازال النقاش
السياسي مستمرا بجانب العمل الإداري الذي ينفذ أجندة وقرارات هذا الأخير الذي
يتوجب عليه إدراك قيمة العمل التنفيذي، كما يجب عليه حفظ محيطه وتطهيره من
السلوكات التسميمية الناتجة عن الإهمال والتعالي والإعجاب المفرط بكرسي التقرير.
وثاني هذه الفروق التي اخترناها بشكل سلس واعتباطي يتجلى في طبيعة
الانتخابات باعتبارها مخاضا مدعوما برعاية الدولة التي لايهمها عدا موسم الولادة
وقطع الحبل السري لإعلان صرخة الحياة، بغض النظر عن المضاعفات التي يمكن أن تلي
الولادة، وهي مسؤولية تقدير الدولة للمسار الصحيح لنمو المؤسسة التي ستحتضن
المنتخب إلى جانب الإدارة. وهو ما يستدعي منها تمكين الكائنين من جو ملائم للتعايش
والتعاون حفظا لمجال النمو وتأسيسا لمستقبل شريحة كبرى من المواطنين الذين يأملون
من الجانبين تجاوبا مع طلباتهم. وكل إهمال لشروط التعايش السليم بالتكوين والحفظ
والرعاية وصيانة الحريات وتثمين الطاقات وتحقيق العدل وتشجيع روح الإبداع والإشراك
وإعلان النوايا والبرامج وترجمتها وتجديد الدماء، ستكون له أوخم العواقب على هذه
العلاقة الوجودية، وبالتالي فإن المؤسسة الحاضنة ستتحول إلى حلبة صراع غير متكافئ
يكون فيه للدولة اليد الطولى. ولا يخفى على أحد حجم الانتقادات والمخاوف والمحاذير
الموجهة إلى الدولة من طرف جملة من المفكرين حول هذا الموضوع قديما وحديثا.
هذه الانتخابات من جهة أخرى تقطع وتيرة الاستراتيجيات التي يكون
الاداري قد باشر إنجازها، وبالتالي تضع هذا الإداري أمام واقعين لا قدرة له في
الاختيار بينهما تقريبا، فالانتخابات يمكن أن تقطع عمل الاداريين دون أن تضع
أمامهم بدائل استراتيجية حقيقية تمكنهم من استئناف عملهم بوتيرة تحترم التزامات
المؤسسة وتضمن للمرافق العمومية استمرارها، كما يمكن أن تأتي بمنتخبين ذوي اطلاع
واسع وقدرة وقابلية على التطوير، مما يمكن أن يجسد قيمة مضافة حقيقية إن لم تسرع
وتيرة الاستراتيجيات أكثر، فإنها تضع أمام الإداريين نموذجيا تسييريا جيدا يمتح
مما أنتجته فلسفة الفعل العمومي في بعدها القيمي والإجرائي معا.
وبما أن الانتخابات تنتج دائما منتخبين، فإن هذا النتاج يكون من
جهة أخرى عاملا مشجعا على تفريخ اللوبيات وينعش بوادر الزبونية التي ترشح غالبا مع
الوعود الانتخابية وتصيب عمل الإداري في مقتل، وتفسد الزرع والضرع وتخنق روح
المبادرة، إن لم تنبت روح الانتقام وتضع الوطنية أمام سؤال المصداقية وتربك روح
الدولة وتعفن قوانينها وتجهز على أثمن ما فيها. وبهذا المعنى يكلف الخضوع للسياسي
الإدارة غاليا جدا، مقارنة مع القطاع الخاص الذي يخضع لغايات داخلية تضمن استمراره
ولأنظمة بعيدة نسبيا عن التعقيد والانغلاق، وتنافسية تحكمها المبادرات الحرة
الخاصة التي لا يمكن أن تؤثر على روح الدولة ووجودها بالشكل الذي تؤثر به في
القطاع العام.
بالنهاية وبايجاز يمكن القول أن العلاقة بين السياسي والإداري
تحتاج إلى أكثر من تحليل نسقي لتحديد المدخلات والمخرجات، ويمكن للدراسات
السوسيولوجية رصد هذه العلاقات بتتبع كل فاعل على حدة وقراءة نشاطه انطلاقا من
المعاني والقيم التي يسعى كل واحد منهما أن يصبغ به عمله. لا السياسي ينبغي له أن
يعجب بما تقدمه له سلطة الكرسي، ولا الإداري ينبغي له أن يفرط في أخلاقيات وروح
العمل الذي سخر له. إن الانسجام والتناغم بين الطرفين وحده يكفل للمصلحة العامة
حياتها وللمواطن كرامته، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا في احترام تام للقوانين التي
أنتجت هذه العلاقة كما أسلفنا منذ البداية.